النظام لا يحمي الناس ، الناسُ هم من يحمونَ النظام " مراجعة لإنمي ومانجا Psycho - pass

  النظام لا يحمي الناس ، الناسُ هم من يحمونَ النظام "

مراجعة لإنمي ومانجا Psycho - pass




المراجعة طويلة وهي مخصّصة لهواةِ فنِّ القراءة والمطالعة

المراجعة تحوي حرق 🔥
.
.
دائماً وما أنْ أسرحُ على عتباتِ الحياةِ ينتابني السؤالُ ذاتُه ..
لماذا نحنُ هنا ؟ وكيفَ للمعنى أن يتجلّى بدِقّة وينتفي بدَقّة ، رقادُهُ انتفاءٌ وحصادُهُ مشقّة ..
كيفِ للوعيِ البشريِّ أن انتفضَ بسنينٍ ضئيلةِ المثقالِ ما إن وزناها مع ثِقلِ الوجودِ ..
هل كان قيامُ الوعيُ البشريُّ مسؤولاً بلا قصدٍ أو رصدْ عن انبثاق الشرورِ ودوافعِ الطمعِ والغرورْ ؟
ما هي النظمُ الاجتماعيةُ المُثلى التي يمكنُ أن تجعلَ العيشَ في جماعةٍ إنسانيّةٍ أمراً قابلَ الحدوثِ دونَ نعراتٍ تقلبُ التعايشَ جحيماً ؟
ما هي الأخلاقُ وكيفَ يمكنُ توظيفها عمليّاً لا نظريّاً في التأقلمِ مع الظروفِ والتكيّفِ مع التقلّباتِ ودفعها لتدوير عجلةِ الرّفاهية للارتقاءِ بالحياةِ الإنسانية نحوَ الأفضل ؟
وكأنَّ السؤالُ رقمٌ يتضاعفُ بمعادلةٍ أسيّة لا نهاية لها والجوابُ تابعٌ محرومٌ من حقِّ الثبوتية منسوبٌ لقوانينٍ رياضية ..
كان إنمي Psycho-pass ولا زالَ واحداً من أعظمِ الأعمالِ التي شاهدّتها ، وتِبعاً للعادِة التي لا يمكنّني التخلّي عنها ، أشاهدُ الأعمالَ توصيةً وأبتعدُ قدرَ الإمكانِ عن العشوائية حفاظاً على وقتي من الضياع ..
كان Psycho-pass أفضلَ استثمارٍ لفتراتِ الاستراحةِ أترّسُ فيه معلوماتي الفلسفية والسعادةُ تغمرني أراها تنطوي أمامي في رسومٍ خلّبية ..
وجاءَ اهتمامي بفلسفةِ الأخلاق تحديداً مكلّلاً تقديري لهذا العملِ ولمؤلّفه الذي استطاع أن يقدّمَ معضلاتٍ فلسفية نادراً ما استدركتها الأعمالُ المتلفزة أو الروائية ..
قبلَ أن نكمل أذكّر أنَّ هذه المراجعة تحوي حرقاً لمن لم يشاهد إنمي Psycho-pass ، وإن كنتَ فعلاً لم تشاهده بعدْ أنصحكَ بتحميله حالاً ومشاهدة الجزء الأوّل منه على الأقل ..
بعدَ أكثرِ من مئةِ عامٍ من الآن ، الآنُ المهموكِ بالحروبِ والمهمومِ بالكروبِ والمترفِ بالأطماعِ والمجحفِ بالأوجاعْ ، أهلكتِ الحروبُ أرضنا وأتلفتِ النزاعاتُ سِلمنا وتفكّكتِ الاتحاداتُ وتصدّعتِ التحالفاتُ وانجرفَ الكيانُ البشريُّ يتهدّى بقشّةٍ على جُرفِ الهلاكِ يستغيثُ بضميرٍ انتفى وحُلمٍ إنسانيٍّ غابَ واختفى ..
كانت إمبراطوريةُ اليابانِ الناجيَ الوحيدَ من فتيلِ الحروبِ بعد أن نجحت وزارة الصّحّة والرّفاهية اليابانية بابتكارِ نظامِ ذكاءٍ اصطناعيٍّ يدعي ( سيبل ) Sybil يستطيعُ بعملياتٍ مدروسةٍ ، بسرعةٍ فائقة ودقّةٍ لامتناهية رسمَ وتنظيم وتقليمَ وتعليمَ وتوقيتَ وترتيبَ كافّة معالمِ وجوانبِ وأجزاءِ المجتمعِ الياباني للوصولِ بهِ إلى أسمى درجاتِ السعادة والرّفاه ..
يمكنُ ل Sybil دراسةُ أصغرِ التفاصيلِ التي تلفُّ الفردَ بصفته وحدةَ التكوينِ المجتمعيّة الأساسيّة والخشبةُ الأولى التي تنهضُ على أكتافها المجتمعات ، وقد صُمّم Sybil لأن يقودَ هذا الفردَ بعدَ دراسةٍ منهجية نحوَ سعادته وترفه النفسيِّ والماديِّ بأن يرسمَ له مخطّطاً واضحاً على الفردِ اتّباعه ليرتقي بذاته وبمجتمعه نحو الاحتمالِ الأسمى والوحيد والذي لا أخاً له .. السعادة
ولا خياراً للفردِ سوى باتّباعِ النّورِ الذي نثرهُ النّظامُ له منذُ ولادته لا بل من قبلُ ، فالطريقُ الذي رُصفت حجارتُه من حساباتٍ ومعادلاتٍ رقمية يتداخلُ مع أعدادٍ لا تحصى من الطرقِ الأخرى لأفرادٍ آخرين مرّوا في حياتنا عبثاً أو وَقعاً ..



فإن تجرّأ الفردُ على الانحرافِ عن شَورِ Sybil مهما كانَ قرارهُ أو سلوكه تافهاً فقد تكونُ النتيجةُ كارثيّةً بإحداثٍ صَدٌعٍ هائل بقراءات النظامِ التي تتداخلُ مع حياةِ الأفرادِ الآخرين ، كأحجارِ الدومينو ترتمي واحدةً تلي الأخرى حتّى ينهارُ المجتمعُ بأكمله ..
ف Sybil هو الواجهة التنظيمية لمجتمعٍ يتكوّن من مستوياتٍ تتفاعلُ مع بعضها صعوداً ونزولاً ولكلِّ مستوىً أهميّته ورُكازَته فالكلُّ أو لا شيء ، يقدّسُ الفردَ ككيانٍ أساسيٍّ ذو حضورٍ فائقِ الأهميّة ويَجبُلُ تلكَ الكياناتِ في بوتقةٍ واحدة كمثالٍ يحتذى بهِ في التعاضدِ الاجتماعي ( وإن كان من دونِ نيّةٍ أو قصد ) لتنشئةِ مجتمعٍ متقدّم ومزهر وفردٍ سعيدٍ ومترف ..
إذاً النظامُ يعملُ من أجلكَ عزيزي الفرد ، لتأمين أبسطِ الطّرقِ وأسلسها لك ، كي تعانقَ السعادة غايةً بعدَ أن اعتنقت القراءاتِ الذهبيّة وسيلةً ..
فالنظامُ يحدّدُ بقراءاته منذُ ولادتكَ ما هي ميولكَ وهواياتكَ وأحلامك ، ما عملكَ في المستقبل ، موضعكَ في المجتمع ، من ستتزوّجُ وكم طِفلاً ستنجب ..
وبذلك تؤدّي دوركَ كلبنةِ البناءِ الأساسية وتكافَأ على دوركَ ذاك مرفّهاً مجترعاً أعلى تراكيزِ السّعادة ..
إحدى أهمِّ القراءاتِ الرّقمية التي يعتمدُ عليها Sybil في ضبطِ الفردِ والمجتمع يدعى Psycho-pass
يمكنُ من خلالِ تلكَ القراءةِ وبعدَ دراسةٍ سريعةٍ ودقيقة للحالةِ النفسيةِ والعصبيةِ للشخص التنبؤُ بسلوكياتهِ ، قراراتهِ ، أفعالهِ وأفكاره ، ومطابقةُ ذاكَ سريعاً ضمن مجالاتٍ يتلائمُ أحدها مع معاييرِ المجتمعِ القويم بينما تقعُ المجالاتُ الأخرىَ خارجَ حدودِ السلامةِ ..
المجالُ الطبيعيُّ لأن يكونَ الفردُ ركيزةً قويمةً يُبنى عليها مجتمعٌ قويم هو من ال 0 حتّى ال 100 ..
الفردُ الذي أتت قراءاته في المجال من ال 100 حتّى ال 300 يدعى بالمجرمِ الكامن ، وهو شخصٌ يمكنُ في أيِّ لحظةٍ أن يمارسَ سلوكاً أو يتّبعَ فكرةً تخلُّ بتوازن المجتمعِ ولا تتلائمُ مع معاييرهِ المهندسةِ والمقدّسة ، ويعتبرُ أولئكَ قنبلةً موقوتة تهدّدُ المجتمعَ ولذلكَ تقومُ مكاتبُ الشّرطة بمتابعةِ وضعِ هؤلاء ومراقبتهم أو الزجِّ بهم في مراكزَ رعايةٍ خاصّة إلى أن ينخفضَ الرّقمُ ليعودَ إلى المجالِ الطبيعي وينخرطوا في المجتمعِ مجدّداً ..
الشخصُ التي تفوقُ قراءة ال Psycho-pass الخاصة بهِ ال 300 يعتبرُ خطراً صريحاً على المجتمع ويجبُ على أفرادِ الشرطة قتلهُ مباشرةً ..
ويُعتمدُ أفرادُ الشرطة على قراءةِ ال Psychopass لتوقّعِ السلوكياتِ الإجراميةِ ومنعِ وقوعها ، حيثُ يعدُّ مستوى الجريمةِ شبهِ المعدومِ إحدى أهمِّ إنجازاتِ Sybil الذي ومنذُ نشأته صفّح المجتمعَ بقيودِ الأمنِ وخلّدهُ بصيرورةِ السّلامِ ..
معنى الحياة ، السّعادة وغيابُ الإرادةِ الحرّة :
السّعادةُ مصطلحٌ مرجعيٌّ ونسبي يتبعُ العديدَ من العواملِ الخارجية ويتغيّرُ بها ، ولكن يمكننا القولُ أنَّ السّعادةَ عند معظمِ البشرِ هي حالةٌ مديدةٌ من الرّضا والرّخاء التي تلي استقرارَ الفردِ داخلياً وخارجياً ..
قد يتّفقُ معظمُ البشرِ أنَّ السعادةَ لا تعني موجةَ النشوةِ التي تجتاحُ تقاسيمَ أجسامنا من ضحكةٍ ونطنطةٍ عندما نجتازُ امتحاناً ما أو نحقّقُ هدفاً قريبَ المدى ، وإنّما من شروطها الاستمرارية والامتدادُ وإن كانت هامدةً لا تترافقُ من نسبٍ قمميّةٍ من السيروتونين والدّوبامين ولكنّها تحملُ الفردَ لمستوىً آخرَ من وجوده فهي كفيلةٌ بضمانِ صحّته النفسية وحفظِ قدراته وتحصينِ إمكانياته وفتحِ روابطاً اجتماعيّةً سليمة وبذلك تؤمّنُ السّعادةُ أن يكونَ الفردُ مكوّناً فعّالاً في المجتمع ، فحالةُ الرّخاءِ تلك نقلت بوجوده من مستوىً يستبسلُ بهِ لتأمين حاجاتهِ النفسية والاجتماعية إلى طابقٍ وجوديٍّ آخر أصبحتُ السعادةُ بهِ تحصيلَ حاصلٍ وبذلك يركّزُ الفردُ طاقتهُ بدلاً من نفسه على محيطهِ ويرتقي بمجتمعه ..
تلكَ إحدى الأُطرِ المرجعيةِ التي يتمُّ اللجوءُ إليها لتعريفِ السّعادة وكانَ هذا الإطارُ أساسَ ما اعتمدَ عليه sybil في تكوين المجتمعِ وتنظيمه ، غافلاً أنَّ هناك عدداً لا نهائياً من الأجوبةِ عن سؤالٍ واحد ، وأنَّ الإنسانَ بصفتهِ كائناً يعتمدُ التحليلَ الواعي في مقاربةِ الأمورِ أكثرُ تعقيداً من أن يسوّرَ السعادة بجدرانٍ وهمية ويكتفي بما في الداخلِ ويتناسى أن ما خارجَ الجدارِ أوسعُ وأشمل فيقتلهُ الفضولُ البشريُّ للبحثِ والبرهان ، فكان ب Sybil أن حوّل الأفرادَ لدمىً محشوّةً بالرّضا والرّخاءِ ولكنّه فرّغها من فضولها وجوّفَها ممّا يميّزُ الإنسان عن بقيّةِ الكائناتِ ، الرغبةُ في البحثِ والتدليلِ والتجريب والإثبات ، وإن لم يجد جواباً فعلى الأقلِّ مارسَ إنسانيّتهُ بالبحثِ والسؤال ولم يتجرّد منها بالركونِ والسكون ..
ف Sybil بصفته كياناً منظّماً ومهيمناً قدّمَ أحدَ الأجوبةِ عن الحياةِ وغفلَ عن لانهائية الجواب ، وما تنبّأت قراءاتهُ الرياضية بأنَّ البشرَ حالما قُدّمَ لهم جوابٌ صريحٌ وواضح تجوّفتْ أفكارهم وتقوّرت أحاسيسهم ، فكان ل Sybil مع مرورِ الوقتِ أثرٌّ معاكس في نفوسِ بعضِ الأفرادِ الذين أعلنَوا الثورةَ في وجه الكيانِ العظيمِ إحياءً لهمّمِ البشرية في البحث عن الحياةِ الإنسانيةِ ومعناها ..
أحدُ الأبحاث العلمية الحديثة سلّطتِ الضوءَ على السعادةِ ومعنى الحياة ، فبيّنت الدّراسة أنَّ الأشخاصَ الذين يعتبرونَ السّعادة حالةً من الرّخاء النفسيِّ تلي الاستقرار الدّاخلي والخارجي للفرد هم أقلُّ الأشخاصِ سعادةً وما يعطي أولئكَ شعوراً بالفراغِ ليسَ قلّة السعادة بل عدمُ وجودِ معنى للحياةِ لديهم ..
أمّا الأشخاصُ الذين يسلكونَ بحياتهم طريقاً خارجَ نطاقِ المألوفِ ويستمرّون في البحث عن معنى ما للحياة هم داخلياً ، عاطفياً وفكرياً أكثرُ إشباعاً وامتلاءً ، أكثرُ قدرةً على مواجهةِ الظروف ، يتمتّعون بمعدلاتٍ ذكاءٍ أعلى ، يرجّحونَ العقلَ على العاطفة ويستأثرونَ بالمنطقِ سُلّماً للنجاة ، لديهم إحساسٌ عالٍ بالحريّة التي تولّدُ تلقائياً لديهم دافعاً داخلياً للبحثِ والاستمرارية ، وحتّى أظهرت الدّراسات أنَّ هؤلاءِ يعيشون لفتراتٍ أطولَ لربّما وإن فسّرناها من ناحية تطورية فأنَّ الأفرادَ ذوي نسبِ الذكاء المرتفعة والباحثينَ المتمرّدين الأقلِّ عاطفيّةً هم أقدرُ على مواجهة الظروفِ وتحدّي
البيئةِ المحيطة وبالتالي ترتفعُ فرصُ نجاتهم وبقائهم ..
هؤلاءِ طبعاً هم أقليّةٌ في المجتمعِ البشري ، فالأكثرية تسوقُها العاطفةُ وتنجرُّ خلفَ الإطار الأبسطَ والذي أصبحَ دارجاً في الثقافة العامّة عن السّعادة ( عملٌ مثالي ، شريكٌ مثالي ، عائلة مثالية .. ) ولذلك نرى أنَّ الرغبةَ بالتغيير تنطلقُ من أفرادٍ قلّة لا تكترثُ لهم الأكثرية في البداية قبلَ أن يعوا مصابهم ويتحوّلون لجموعٍ غفيرةٍ تدعمُ أفكارهم ومبادئهم ..
شوغو ماكيشيما هو الإسقاطُ الصريحُ لجماعةِ القلّة في مجتمع Psychopass ، الذين يحملونَ على عاتقهم مسؤوليةً ورسالةً مُثلى في حثِّ البشرِ على إشباع فضولهم العقليِّ وعدم الخضوعِ لعواطفهم ..
كانت إحدى أبرزُ أخطاء Sybil التي كانت أن تودي به ككيانٍ مهيمنٍ ومسيطر هو سلبُ الإرادة الحرّة من أفرادِ المجتمع وحصرهم في خياراتٍ لا يحقُّ لهم المساسُ بصحّتها أو التماسُ حقيقتها أو التشكيكُ بها ، وفي حالِ تملّك الفردُ شيئاً من الحريّة واختارَ ما لم يختاره Sybil له عوقبَ إمّا بالسجنِ أو بالموت تبعاً لقراءات Psychopass لديه ..
ف Sybil يعتبرُ الحريّةَ شيئاً من الفوضى وإن امتلكَ كلُّ فردٍ خياراً عشوائياً لم يحدّده Sybil سينجرُّ المجتمعُ دون أدنى شكِّ إلى مستنقعٍ من الخرابِ واللانتظام ، متناسياً أيضاً أنَّ الفوضى هي ما يحكمُ الكون بقوانينه الفيزيائيّة والرياضية وأنَّ أجزاءُه كلّما اقتربت من النّظام انتفتْ وانهارتْ ..
وحتّى يمكنُ للفردِ الانطلاق في رحلةِ البحث عن معنى الحياةِ لا بدَّ أوّلاً أن يمتلكَ الخيارَ الحرَّ والذي لا تحكمهُ عواملٌ خارجية ولا تفرضهُ الأحكامُ والظروف ..
فكان لماكيشيما أوّلاً أن حطّم القيودَ وفتّح العيونَ أنَّ هناكَ دائماً خياراً حرّاً يمكننا اتخاذُه وإن خالفَ ما لا يجوزُ خلافُه فقد نجدُ ضالّتنا الوجودية فيه ، فلا يمكنُ أن نتوقّع من فردٍ فُرضت عليه قيودٌ فكرية أن يأخذَ بجديّة على عاتقه مسؤولية البحثِ عن معنى الحياة ، فالحريّةُ جسورٌ لا تُحِسُّ ولا تُرى سوى للقلّة تحملُ بهم إلى عوالماً من الأسئلةِ والإجابات ..
فلسفة الأخلاق :
من أهمِّ المواضيعِ التي سلّط Psychopass الضوءَ عليها هي فلسفة الأخلاق وهي إحدى أهمِّ الرّكائزِ التي قامت عليها الفلسفة منذُ فجرِ التّاريخ ، فكانت الأخلاقُ موضوعاً أساسياً بحث فيه الفلاسفة على مرِّ العصورِ وفي مختلفِ الأماكن لينبتَ الآنُ فرعٌ فلسفيٌّ قائمٌ بحدِّ ذاته يُدرّسُ ويُكرَّسُ في العديد من جوانب الحياة البشرية ك علمِ النفس والاجتماعِ ..
قال أحدُ فلاسفة الأخلاق المعاصرين :
" الفناءُ يعطينا إمكانيّةً أن يكونَ هناك معنىً لحياتنا ، والأخلاقُ تساعدنا في البحثِ عن ذاكَ المعنى .. "
لنتخيّل أنَّ البشرَ كائناتٌ خالدة ، لا تموتُ ولا تنتفي استمرارية وجودها أبداً ، فأنتَ ككائنٍ بشريٍّ يمتلكُ الدّهر كاملاً لأن يكونَ ولا يختفي تصبحُ الحياة لديه لا معنى لها ، وإن امتلكتَ دَافع البحثِ عن معنىً ما فأنتَ تملكُ الأبدية لأن تجده ، لا عُجالةً تهزُّ مدافعك ولا سباقاً يقودُ دوافعك ..
ما يقدّمه الموتُ خدمةٌ مجّانية للبشرِ وسباقٌ حامٍ يحاول به الفردُ إيجاد المعاني قبل فناءِ الثواني ، والأخلاق إحدى المناراتِ التي تمكّن الفردَ من التشبّثِ بخياره في البحثِ عن المعنى ، تصرّح ما في طريقه من عقبات وتلمّعُ له المشهد وتجعلهُ أكثرَ وضوحاً في رحلته ، فالأخلاقُ كنظّارةٍ سحرية تعطي صاحبها ميّزةَ أن يرى بعضَ المداخل السريّة والطرقِ المختصرةِ في رحلته البحثية ..
مجتمعُ Sybil فقاعةٌ من السّعادة الأبدية واستمرارُ حالٍ من الترف والرّخاءِ والأمانِ والجمالِ لا يمكنُ أن يفنى إلّا بالمستحيل ، يعيشُ فيه الأفرادُ كالزّومبي ، لا معنىً لوجودهم ولا مغزىً من استمرارهم ولا إمكانيّةً لكبحِ ذاك الاستمرارِ ولا أحداً يتجرّأ على كبحه أصلاً ، ولذلك من وجهة نظر الفلسفة فمجتمع Sybil هو عيّنةٌ لا يمكنُ تطبيقُ الأخلاقِ فيها ، وهي أحدُ الأمورِ التي غفلَ عنها Sybil ففشلَ في خلقِ المجتمع المثالي الذي أراده ..
لنعودَ ونتخيّل أنّك كائنٌ بشريٌّ خالدٌ ولا يموت ، ما قيمة الأخلاق لديك ؟ ولماذا تتصرّف بأخلاقيةٍ إن كان لديكَ الأبدُ بأكمله لتصحّح أخطائك أو تنساها ؟ ..
وإن كانَ العدمُ هو الحقيقة فما فائدة الأخلاقِ وما قيمتها ؟
عُد إلى مقولة الفيلسوف ، الأخلاقُ مصباحٌ يضيءُ لك عتمةَ الوجودِ وإن كانَت إضائتها لمحيطٍ قريبٌ ومحدودٍ فهي تساعدكَ في التقدّم والتجرّؤ على البحث والاستمرار ..
حاولَ Sybil استخدامَ بعض القوانينِ الأخلاقية لضبط سلوكِ الأفراد وتسيّيرها على هواه ، وأكثر القوانين الأخلاقية التي استخدمها هو قانون الواجبات أو ما يدعى ب ( علم الواجبات )، أي أنّك كفردٍ في مجتمع Sybil تفرضُ عليكَ واجباتٌ معيّنة ، والأخلاقُ تعني القيام بتلكَ الواجبات أمّا عدمُ القيام بها فهو فِعلٌ لا أخلاقي ، ولضمانِ Sybil أن يقومَ كلُّ فردٍ بواجبه استخدمَ ما يدعى ب (النظرية العواقبية في الأخلاق ) فعندما يقومُ الفردُ بسلوكٍ أخلاقي كما يعرّفه Sybil سيقودهُ هذا السلوك إلى السعادة والرّفاه ، بينما عندما يقومُ الفردُ بسلوكٍ لا أخلاقي كما يعرّفه Sybil سيتمُّ نبذُه ونفيُه من المجتمع إمّا بالسّجن أو الموت ، فلم يحدّد Sybil السلوكَ وحسب بل حدّد عواقبه وبذلك يضمنُ تماماً أنَّ الفردَ سيتصرّفُ بحدودِ القواعدِ التي وضعها ..
فنظامُ المكافئات والعقوبات يعدُّ أحد أشهرِ التطبيقات الأخلاقية في المجتمعات البشرية ، ولكنّه ومع الأسف أثبتَ بدائيّته وعدم صلاحيّته لكافة الأوقات والظروف بسبب لعبهِ على وترِ الخوفِ والعاطفة وليس على مبادئ النيّةِ الحسنة أو السلوك المنطقيِّ والمدروس أو التظاهراتِ الاجتماعية وغيرها ..
النيّة الحسنة :
يعدُّ إيمانويل كانت أحدَ أبرز فلاسفةِ الأخلاق الذين وضعوا بصمتهم الواضحةَ في هذا المجال الحسّاس وشديدِ الأهمّية ..
وبحسب كانت فإنَّ النظامَ الأخلاقيَّ الذي يجبُ على الإنسانِ اتّباعهُ هو النيّة الحسنة ( Good will ) دونَ أن يطمعَ بمكافئةٍ أو يتجنّب عقوبة ، فعندما يربطُ الإنسانُ سلوكه بمكافئةٍ وعقوبة يصبح قيامهُ بالسلوكِ فعلاً أنانياً يهدفُ أخيراً لخدمة نفسه فقط فيصبحُ الفعلُ حتّى لو كانَ أخلاقياً فعلاً لا قيمةً معنويةً له ، كما أكّد كانت أنَّ الإنسانَ عندما يصوّرَ الأخلاق على هيئةِ مكافئةٌ أو عقوبة يصبحُ من السّهلِ تسييرهُ والتحكّم بأفعاله لخدمةِ أنظمةٍ معيّنة تحدّدُ السلوكياتِ خدمةً لمصلحتها فقط وكان ذلك واضحاً جدّاً في نظام Sybil ..
كيفَ يمكنُ أن نعرف أنَّ النيّةَ التي تدفعنا للقيامِ بسلوكٍ ما هي نيّة حسنة وليست سيئة بحسب كانت ؟ ..
يقول كانت أنَّ كونَ البشرِ كائناتٌ اجتماعية يسهّلُ على الفرد تقدير نيّته ما إن كانت جيّدة أم سيئة ..
فمثلاً يمكنُ للفردِ أن يعرفَ أنَّ نيّته بالكذبِ حسنةً أم سيئة من خلال أن يتخيّل الفردُ مجتمعاً يكذبُ فيه الجميع دونَ أن يُعتبرَ ذلك فعلاً خاطئاً أو سيئاً ، يكذبُ الجميعُ حتّى أن معنى الكذب في هذا المجتمعِ اختفى ، فإن كان الجميعُ يمارسونَ الكذب لم يعدٌ في هذا المجتمعِ من هو كاذبٌ ومنافق وبذلك انتفت قيمةُ الكذبِ في هذا المجتمع .. ويطرحُ الفردُ على نفسه بعد تلك اللعبة التخيّلية سؤالاً أساسياً ( هل أريدُ لنفسي أن أعيش في مجتمعِ يكذبُ فيه الجميع كأمرٍ عاديٍّ حتّى لم يعد للكذبِ قيمة ؟ )




إن كان الجوابُ نعم فيجبُ عليكَ القيامُ بالفعل وإن كانَ الجوابُ لا ، لا يجبُ عليكَ القيامُ به ..
ومن منظورٍ أكثرَ بساطةٍ يمكننا القول أن كانت اتّبعَ مبدأ ( عاملِ النّاسَ كما تحبُّ أن يعاملوك ) فإن كنتَ تنزعجُ من كذبِ أحدهم عليك فلا يجبُ أن تكذب على الآخرين وهكذا ..
ولكنَّ اتّباع النيّة الحسنة يحتاجُ وجودَ فردٍ على مستوىً عالٍ من الوعي النفسيِّ والاجتماعيِّ والنُضجِ التحليلي الذي قد يستغرقُ جهداً ووقتاً في إرشادِ الشخصِ أخلاقياً ، فيمكنُ القولُ أنَّ هذا النّظام الأخلاقي يمكنُ تطبيقه فقط في يوتيوبيا ضائعة سُكّانها كائناتٌ خيالية في أحدِ الأساطير المطويّة ، ولذلك تلجأ غالبُ الأنظمةِ عمليّاً للنظرية العواقبية ومبدأ المكافئات لاختصارِ الوقتِ والتحليل ولجذب العاطفةِ وكسبِ التأييد ..
الكيانُ المهيمن :
كُشفت في منتصف حلقات الموسمِ الأوّل حقيقة نظام Sybil على أنّه مجموعةٌ من الأدمغةِ البشريّة التي تعملُ مع بعضها وفق تقنية parallel distributed processing لتنظيم المجتمع والتحكّم به ..
تلكَ التقنية في عالمنا الحقيقيِّ تعتبرُ إحدى أكثر مضامير العلمِ حداثةً حيثُ تحاول علومٌ مجتمعة منها علمُ الأعصاب وعلمُ النفسِ وعلمُ الحاسوبِ الوصول لخريطةٍ رقمية للدماغِ البشري حيثُ يمكنُ للحاسوب تقليدُ العملياتِ العقلية البيولوجية والنفسية وربطِ عدّة حواسيبٍ مع بعضها للقيام بعملياتٍ فكرية ٍعالية المستوى وبسرعةٍ هائلة يمكنُ للإنسانية استخدامها في الارتقاءِ بالمجتمع البشري ..
وكانت الصدمة الكبيرة في Psychopass أنَّ Sybil الكيانُ المنظّمَ للمجتمعِ الفاضل عبارةٌ عن مجموعةٍ من الأدمغة لأشخاصٍ ارتكبوا جرائمَ شنيعةٍ وتمَّ ضمُّ أدمغتهم واحداً تلوَ الآخر للنظام ..
فكانَ يعجزُ Sybil عن قراءة ال Psychopass الخاص بكلِّ واحدٍ منهم ولذلك يُدعون ب ( المجرم اللاعرضي ) فكان النظامُ يقفُ حائراً أمامهم غيرَ قادرٍ على ضبط أفعالهم أو التّوقّع بسلوكياتهم لأنّها خارجةٌ عن حدودِ التقدير والتفكير التي يمكنُ ل Sybil استيعابها فيعملُ على ضمّهم لتوسيع نطاق تفكيره ودمجِ مبادئهم وأساليبهم في النّظام وبذلك يصبحُ Sybil قادراً على قرائتها والتنبّؤِ بها ومنعِ حدوثها ..
فكانت الحقيقة القاسية أنَّ Sybil الذي يضعُ قواعداً أخلاقية ويهندسُ مجتمعاتٍ مثالية ليس سوى مجموعةٍ من المجرمين الذين فرضوا معاييراً أخلاقية بحسب معرفتهم السابقة بما اقترفوه ..
فأصبحَ الكيانُ المهيمنُ صارماً بقواعدِ الخيرِ لأنّه تشبّعَ بالشرَّ قبلاً واستهوى فصولَهُ قبلَ أن يعظَ الخيرَ ويعي أصوله .

إرسال تعليق

أحدث أقدم